التسليح الهيكلى للغذاء
بينما يصادف الاحتفال باليوم العالمي، من أجل السيادة الغذائية للشعوب، وضد سياسات الشركات عبر الوطنية، في 16 أكتوبر/تشرين الأول، تواصل الحركات الاجتماعية والسياسية العالمية جهودها الدؤوبة لتحقيق السيادة الشعبية، على الموارد الطبيعية والغذاء للشعوب. وفي هذا العام، تنزلق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نحو اشتعال، سيزيد من معاناة المجتمعات الريفية التقليدية والفلاحين، وصغار المزارعين، وصغار الصيادين، وصغار منتجي الأغذية على وجه الخصوص. فهم يواجهون على مدار سنوات، نزوحاً جماعياً، وفقدانهم لأراضيهم، وممتلكاتهم، فضلا عن تعرضهم لخطر الجوع والمجاعة المتعمد، في ظل ويلات الحروب والنزاعات المستمرة.
ومع استمرار الحرب التي تشنها إسرائيل على الإقليم، عقدت مجموعة أعضاء لجنة التخطيط الدولية للسيادة على الغذاء (IPC)، وممثلوها من التحالف الدولي للموئل، وحركة ”لا فيا كامبيسينا“، و حركة”المسيرة العالمية للنساء“، وناشطين من منظمات أخرى في الشرق الأدنى/شمال أفريقيا، مشاورات إقليمية في إسطنبول يومي 10 -11 يونيو/حزيران 2024، تحضيراً للاجتماع العالمي الثالث لمبادئ نييليني في 2025. و أصدروا البيان التالي الذي يعكس التقييم المشترك للنظم الغذائية في المنطقة:
بينما اجتمعنا نحن منظمات المجتمع المدني في الشرق الأدنى/شمال أفريقيا، التي تروج للسيادة الغذائية في اسطنبول هذا الشهر، كان استخدام إسرائيل المستمر للتجويع كأداة للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، يفرض نفسه على جدول الأعمال. وبصفتنا شهودًا على تلك الفظاعات التي ترتكبها تلك القوة الاستعمارية المدانة في منطقتنا، فإننا نحث على إجراء التصحيحات اللازمة للنظام العالمي الذي يتيح ارتكاب مثل هذه الجريمة الوحشية.
وفي هذا العالم المتشابك والمترابط، ناقشت منظمات المجتمع المدني، كيفية تقاسم المسؤوليات من أجل تحقيق الإنصاف. ونحن نتعهد بالقيام بدورنا، وفي حدود قدراتنا، في حين تتحمل الأطراف الأخرى أيضًا مسؤولية مشتركة ولكن متباينة، وفي مقدمتها الدول، من خلال الوفاء بالتزاماتها الفردية، والجماعية، والمحلية، وخارج حدود ولايتها الإقليمية، لوضع حد للوضع غير القانوني.
إن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحرمان الشعب الفلسطيني من سبل العيش، بما في ذلك العرقلة المتعمدة للسيادة الغذائية، قضية طويلة. وعلى الرغم من تطرفها، إلا أنها ليست إلا رمزًا لاختلال أوسع نطاقًا في توازن القوى الذي عانت منه شعوب منطقتنا، على مدى الألفية الماضية. ونحن نرى أن الحاجة الملحة لإصلاح النظام الغذائي العالمي، لا غنى عنها للإصلاحات المقترحة في مؤتمر قمة الأمم المتحدة للمستقبل في هذا العام.
كيف تسير الأمور حالياً
يسترشد تشخيصنا للوضع الحالي، بالمبادئ الستة للسيادة الغذائية. وقد ساعدنا تطبيقها في الكشف عن هدف (الهيمنة) وطريقة عمل (الاستيلاء المنهجي) للنظام العالمي الحالي الذي يعمل في منطقتنا. ويتجلى لنا الانحراف عن هذه المعايير أيضًا في الصراع اليومي المتزايد من أجل الغذاء، وكذلك من خلال الأزمات الاقتصادية الكلية المتفاقمة في المنطقة، لا سيما في مصر والأردن ولبنان. فالكثير من هذه الديناميكية تديمها الطبقات السياسية الخاضعة بشكل انعكاسي في بلداننا التي تم استمالتها في هذا النظام العالمي غير المستدام، والذي أدى هدفه وعمله إلى مواجهة نحو 36.7 مليون شخص لمستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2023، وعدد مماثل (35 مليون شخص على الأقل) من النازحين قسرياً، والمستحقين لجبر الضرر في عام 2024، بما في ذلك ضحايا النزاع والاحتلال والحرب، لا سيما في فلسطين والسودان وسوريا والصحراء الغربية.
إن أهم نتائج الاستعمار واستمراره، هو خلق نظام عالمي متكامل وغير متكافئ. وقد أدت تلك العملية التاريخية إلى قتل ما يصل إلى 262 مليون شخص في المستعمرات في القرن الماضي فقط. وفي الوقت نفسه، أصبحت العنصرية أيديولوجية شاملة ذات روابط وثيقة بين رأس المال والتجارة والدول القوية.
ولا تزال مثل هذه العواقب قائمة، على الرغم من أن أوروبا لم تعد تهيمن على العالم. وعلى الرغم من ظهور المحاكم والهيئات القضائية الدولية، فضلاً عن المعايير التقدمية لحقوق الإنسان، و ما يقابلها من التزامات خارج الحدود الإقليمية للدول، فإن السياسات الخارجية للعديد من الدول القوية، أصبحت لا تقل عن الجريمة المنظمة العابرة للحدود. كما يكفل النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، لأن تكون جميع المستعمرات السابقة، دولاً فقيرة في وقتنا الحالي، بينما أصبح ينتمي الحكام الاستعماريين السابقين، إلى مجموعة الأغنياء. ولم يتمكن سوى عدد قليل من المستعمرات السابقة، من الارتقاء إلى هذه المكانة، بينما يشكل الاستعمار الثقافة الاجتماعية الأكثر صلة بالعالم المعاصر، ويفسر الكثير من أوجه عدم المساواة المستمرة على نطاق عالمي.
وتسود التفاوتات الجسيمة أيضًا داخل إقليمنا، وتمتد للمستوى المحلي، وخاصة من خلال دور الاستثمارات الإقليمية، لاستغلال مواردنا الوطنية، وما تضمنه من العمالة، والأرض، والمياه، والنظم الغذائية. ولذلك، فقد شرعنا في وضع مبادئ الاستثمار الزراعي المسؤول اللازمة لمنطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، لتسليط الضوء على بعض أوجه عدم المساواة الداخلية في منطقتنا وتصحيحها.
فالبطالة الهائلة، والحروب الدائمة، والإبادة الجماعية الهيكلية، والموت من الجوع، فضلاً عن الأمراض والوفيات المبكرة تصيب منطقتنا بشكل غير متناسب. ومن المتوقع أن يقتل النظام العالمي الحالي، نحو 200 مليون شخص آخر من خلال هذا الحرمان الهيكلي. ويموت حوالي 20 مليون شخص سنويًا من آثار المجاعة وندرة المياه النظيفة، والنزوح، ونزع الملكية، والتلوث البيئي، المأوى غير الملائم، والدواء، وما يترتب على ذلك من أمراض.
ويؤثر النقص في إمدادات المياه بالفعل على صحة سكان الإقليم، من خلال الحد من الإنتاج الغذائي المحلي، مما يؤثر على قدرة الناس للحصول على نظام غذائي صحي ومغذٍ من المصادر المحلية. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن تحسين الري والزراعة المحلية، قد أدى إلى تحسين التغذية بشكل ملحوظ، لا سيما بين الأطفال. إلا أن هذا النظام العالمي غير المنصف، والذي يظهر بشكل جلي في إقليمنا، لا يمكن أن يستمر إلا بقمع العمالة، ولا سيما صغار منتجي الأغذية، وأصحاب الحيازات الصغيرة من الشعوب الأصلية، الذين تعتمد عليهم أسواقنا الغذائية إلى حد كبير.
ومنذ عام 2016، فإن النصيحة التي تقدمها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، لدول الشرق الأدنى وشمال أفريقيا لدعم الزراعة الأسرية صغيرة النطاق، هي بناء تدابير ”انتقالية“ لمنتجي الأغذية لدينا ”للخروج من الزراعة“ وإفساح المجال أمام الجهات الفاعلة من الشركات، مع تجاهل أولوياتهم الخاصة المتمثلة في الديون الساحقة، والحرمان من حقوقهم الإنسانية في التنظيم، والمضايقات التي تمارسها أجهزة الدولة الأمنية، في حين أن البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ومنظمة الأغذية والزراعة FAO، يروجون لخصخصة الموارد المائية الحيوية في بلداننا.
هذا النهج الأيديولوجي المهيمن وعواقبه، جعل المستهلكين في منطقتنا يعتمدون بشكل متزايد على الشركات الفاعلة، مع تحويل إنتاج الغذاء للأكل إلى إنتاج الغذاء للبيع فقط. ويؤدي هذا الاتجاه إلى إخضاع قيمة الاستخدام إلى قيمة التبادل، في الوقت الذي يؤدي فيه أيضًا إلى تدهور الطبيعة، بما في ذلك الطبيعة الاجتماعية، وتآكل ثقافاتنا المحلية، خاصة محو المجتمعات التقليدية والشعوب الأصلية. ويحدث كل هذا، في الوقت الذي تتسبب فيه الحروب الأبدية، القريبة والبعيدة على حد سواء، في تعطيل الإمدادات الغذائية، وهياكل الأسعار بأكملها، مما يجعل الغذاء الكافي غير متوفر للملايين.
وفي المشاورات الدورية التي تجريها منظمة الفاو كل سنتين، مع شركائها من المجتمع المدني، ظل مسؤولو السياسات والمسؤولون الفنيون في المنظمة، على توجيهنا بأن وكالتهم ليست سوى وكالة تقدم الاستشارات الفنية، غير معنية بمبادئ حقوق الإنسان العالمية. وقد ترسخ هذا الموقف في الثقافة المؤسسية للوكالة الآن، مع إصرار المدير العام للمنظمة، منذ عام 2020، على أن قضايا حقوق الإنسان يجب أن تُطرح فقط أمام آليات الأمم المتحدة البعيدة في جنيف، وأن سياسات الأمن والتنمية يجب أن تناقش في نيويورك فقط. وذلك على الرغم من أن المجالس الرسمية على رأس كل ركيزة من ركائز ميثاق الأمم المتحدة وهي (السلام والأمن، والتنمية، وحقوق الإنسان) هي التي تصدر السياسات على مستوى المنظومة.
كيف يجب أن تسير الأمور
في حين أن النظرة المنقسمة للمدير العام لمنظمة الفاو، لمنظومة الأمم المتحدة الوحدوية المنشودة، لا مكان لها في قيادة المنظمة الدولية، فإن التكنولوجيا، والنهج التقني الحصري، لن يحل جميع تحدياتنا اليوم، ولا في المستقبل. ولسنا مقتنعين بأن معالجة التحديات الملحة المتعلقة بالغذاء في إقليمنا يمكن أن تتحقق فقط، من خلال أولئك الذين يكسبون عيشهم من إساءة استخدام التكنولوجيا، لتحقيق مكاسب خاصة، كما شهد أسلافنا على مدى قرون.
ونشدد على أهمية أن تنفذ الدول ووكالات الأمم المتحدة أخيرًا ، الصكوك المعيارية المتعددة الأطراف بشأن حق الإنسان في الغذاء، وإدارة الأراضي، والموارد الطبيعية، والغذاء والتغذية في الأزمات الممتدة . حيث تحتوي تلك الصكوك على قدر كبير من الخصوصية، والمواءمة، مع التزامات الدول القائمة المنصوص عليها في المعاهدات، وهي العمود الفقري للنظام المتعدد الأطراف.
إننا ندعو إلى مواءمة إدارة وكالات الأمم المتحدة التنفيذية، مع ميثاق الأمم المتحدة، ونظام المعاهدات الخاص بها، لتحقيق الوحدة المنشودة للأمم المتحدة، بدلاً من الرؤية المجزأة والثنائيات الزائفة التي تطرحها القيادة الحالية للمنظمة لعزل حقوق الإنسان عن عمليات التنمية، على الرغم من المعايير المعيارية القائمة. كما ندعو في هذه العملية أيضاً، إلى استعادة حقوق المرأة والنوع الاجتماعي، كأولوية سياسية ثابتة للحكومات، ووكالات التنمية في منطقتنا، والتي اختفت تدريجيًا من الأولويات الإقليمية لمنظمة الفاو منذ عام 2014.
في سياق الفصل العنصري، والاستعمار والإبادة الجماعية، التي تمارسها إسرائيل في فلسطين، لم تكن تلك الفجوة الآخذة في الاتساع بين المعايير، والسلوك أكثر وضوحًا، من أي وقت مضى. وبينما تدعو المظاهرات الشعبية في جميع أنحاء العالم، إلى وقف إطلاق النار، وتفكيك الصهيونية، وغيرها من أشكال العنصرية، والاستعمار الدائمة، نرى أن هذا التغيير الجوهري للنظام الدولي أمرًا ملحًا لإنهاء ممارسات تسليح الغذاء.
وفي الوقت الذي نقف فيه على جمع الشعوب في جميع أنحاء عالم الجنوب، في صحوتهم ضد نفاق المؤسسات والقيادات العالمية والوطنية، فإن تلك الهياكل تفقد جمهورها في عالم الشمال كذلك. وفي هذا السياق، نتماثل جميعًا مع الفلسطينيين، وهو الشعب الأصلي والوحيد للأرض، والمعروفة تاريخيًا - ولا تزال - بإسم فلسطين، على الرغم من الوسائل الإجرامية التي تتبعها الصهيونية في محاولة محو آثارها. كما أننا نرى أيضًا التناقض المتفاقم بين معايير حقوق الإنسان، والقانون الدولي من جهة، والممارسة الفعلية من جهة أخرى. ويبقى التوفيق بين هذين الأمرين تحديًا جوهريًا بالغ الإلحاح في هذه اللحظة بالنسبة لنا، ولكل المجتمعات المدنية في العالم.
الصورة: اجتماع المشاركون في المشاورة الإقليمية للجنة التخطيط من أجل السيادة على الغذاء، في اسطنبول، يونيو/حزيران 2024. المصدر: شبكة حقوق الأرض والسكن.
|