English عن التحالف اتصل بنا الاصدار 31 - كانون الأول/ ديسمبر 2024 الرئيسسة
تطورات اقليمية

إسطنبول لا ينبغي أن تكون مدينة أوليمبية–2

أثارت دورة الألعاب الأولمبية لعام 2024 في باريس الصيف الماضي، التناقض المعتاد بين الترفيه العالي والاستعدادات التي شهدت عمليات إخلاء قسري للفئات الأكثر ضعفًا في المدينة المضيفة، إلى جانب انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان.(يمكنكم قرأة مقال، الفعاليات الكبرى، وحقوق الإنسان، وأولمبياد باريس، من نشرة أحوال الأرض/ Land Times، العدد 30 - يوليو 2024 ). ويبدو أن احتمالات الاستضافة في منطقة البحر المتوسط قد أصبحت مطروحة للنظر مرة أخرى. ربما حققت ألعاب باريس أرباحاً صافية تقدر بـ12 مليار دولار للاقتصاد الفرنسي؛ ومع ذلك، لا تراعي هذه المقاييس، التكاليف التي يتحملها السكان المحليون، نتيجة التضخم وفقدان المساحات الحضرية العامة.

يلقى هذا المقال نظرة ثانية من مدينة إسطنبول، لتوضيح سبب خطورة العرض المقدم من تلك المدينة لاستضافة الألعاب الأولمبية لعام 2036. ويشير الرقم 2 في نهاية عنوان المقال، إلى هذه النظرة الثانية، لاحتمالات استضافة مدينة إسطنبول للأوليمبياد، استنادًا من مقال أخر، بقلم الخبيرة جيهان أوزُنتْشارتشلي بايسال (Cihan Uzunçarşılı Baysal)، يحمل نفس العنوان في صحيفة راديكال إيكي (Radikal iki)، بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2013 ـــــ على موقع شبكة حقوق الأرض والسكن (HLRN).

ومن المُرهق لمن عارض من قبل مشروع إسطنبول للألعاب الأولمبية لعام 2020، وشارك الأسباب حول ذلك في كافة وسائل الإعلام المختلفة، مستنداً إلى الأخبار والإحصائيات والتقارير ذات صلة، أن يعيد ويكرر نفس الأسباب بعد 11 عامًا، استنادًا على ترشيح مدينة إسطنبول لعام 2036. ومن ناحية أخرى، فإن الأمر يتطلب كذلك، الاستعداد للعمل الجاد مرة أخرى بعد 11 عامًا، كعضو في حركة Geziciler المناهضة للأولمبياد، وهم [المشاركين في أحداث انتفاضة حديقة جيزي في إسطنبول عام 2013].

ثم تم حينها تكريمنا بـتلك الهدية المسمومة، من وزير الاتحاد الأوروبي آنذاك إيجمن باغيش (Egmen Bağış)، عندما حاولت الحكومة المركزية والمحليات في تركيا التسويق جاهدة، لترشيح مدينة اسطنبول، لاستضافة الألعاب الأولمبية لعام 2020. وكانت مبادرة يسهل التنبؤ بها. حيث كانت الحكومة، التي نفذت الكثير من عمليات الإخلاء القسري ونزع الملكية، ستسعى لإقامة الشرعية لتلك الممارسات من خلال دورة الألعاب الأولمبية، وتحويل مدينة اسطنبول، إلى موقع بناء ضخم، على حساب أصولها وأحيائها، الطبيعية والتاريخية والثقافية. فلو كانت إسطنبول قد قد نجحت في ترشحها الأوليمبي، لكانت التجهيزات المخطط لها، ستُخضع القرى في الغابات الشمالية ــــ والتي تعرضت بالفعل للنهب تحت ذريعة مشروع قناة إسطنبول طويل الأمد ــــ إلى تطوير مبكر جدا. [يمكن قراءة مقال جيهان أوزُنتْشارتشلي بايسال، لمن الأرض؟ لمن القرى؟ المستوطنات المتلاشية في غابات إسطنبول الشمالية (القاهرة: شبكة حقوق الأرض والسكن -التحالف الدولي للموئل، 2024).

وبالنظر إلى أن المسؤولين الذين جلبوا الألعاب الأولمبية، إلى بلدانهم، أو مدنهم كوسيلة للفخر الوطني، قد عملوا على تحسين صورتهم الخاصة، فقد كان من السهل فهم شهية، وطموح رئيس الوزراء آنذاك. واليوم، ننظر إلى حكومة محلية تدعي أنها ديمقراطية اشتراكية، ثم نتساءل: ما الذي تغير؟

فعندما ننظر إلى المكاسب السياسية التي حققتها الألعاب الأولمبية، من وجهة نظر عمدة العاصمة الطموح، الذي يتمتع بشخصية قيادية، نجد أنه لم يتغير شيء على الجانب الإداري. ولم تختلف النتيجة عن ما هو معتاد، بل تؤدي فقط إلى ارتفاع الإيجارات في  المدن، وتراكم رأس المال. فقد كانت الحكومة المحلية تحاول فقط التسويق للمدينة من خلال تصنيفها على أنها أكثر جذبًا للسياحة.

انتهاكات الحق في السكن/الموئل الصالح للسكن والإخلاء القسري في المدن الأولمبية

تُعرَّف الألعاب الأولمبية، وكأس العالم لكرة القدم (FIFA)، وغير ها من الفعاليات الكبرى المماثلة، بأنها مشاريع ضخمة، لأنها تسبب تحولات واسعة النطاق في المدن. وتجذب هذه الفعاليات الكبرى أعدادا كبيرة من الزوار/السياح، وتتمتع بتغطية إعلامية واسعة، مما يضمن الاعتراف بالمدينة المضيفة. في الوقت نفسه، وبينما تهدف المشاريع الفاخرة إلى التحسين السياحي للمدينة، يصبح الوصول الى السكن والإيجارات، غير متاح وبشكل متزايد للسكان المحليين.

فلم يعد سكان المدن المستضيفة للألعاب الأولمبية، قادرين على العيش في مدنهم. في سيول، والتي استضافت دورة الألعاب الأولمبية عام 1988، ارتفعت إيجارات الشقق، بنسبة 20.4%، وإيجارات الأراضي بنسبة 27%، في الأشهر الثمانية الأولى من الاستعدادات، لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1978. وفي برشلونة، التي استضافت دورة الألعاب الأولمبية عام 1992، ارتفعت إيجارات المساكن بنسبة 131%. حيث تُعد برشلونة السياحية إحدى المدن التي تعاني لليوم من أشد أزمات السكن. وفي أتلانتا، حيث كان متوسط زيادة الإيجار الشهري 0.4% في عام 1991، ارتفعت الإيجارات بها بنسبة 7.9% في عام 1996، وقبل استضافة الألعاب الأولمبية مباشرة، وغادر المدينة 15 ألف شخص من ذوي الدخل المنخفض، بسبب الإيجارات المرتفعة. هذا بالإضافة إلى المعاملة سيئة السمعة لسكان المدينة من المشردين خلال موسم الألعاب الأولمبية وما بعده. وفي سيدني (المدينة المضيفة للألعاب الأولمبية عام 2000)، ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 50%، وفي لندن (المدينة المضيفة للألعاب الأولمبية عام 2012)، قفزت أسعار العقارات في منطقة القرية الأولمبية من 1.4% إلى 4.6%. فالألعاب الأولمبية تجعل من الصعب الوصول الى السكن والإيجارات في جميع المدن المضيفة، مما يتسبب بشكل مباشرن وغير مباشر في عمليات الإخلاء القسري.

وبما أن المدينة الأولمبية، تحتل مركز الصدارة أمام الجمهور العالمي، تحتاج الصحافة العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، إلى تقديم المدن المضيفة، على أنها خالية من جميع جوانبها القبيحة، والفوضوية، وغير الرسمية، لتصبح أكثر لمعانًا وأناقة ونظافة. ويتم تنفيذ مشاريع البنية التحتية، والنقل، وغيرها من مشاريع التحول، تحت ذريعة الألعاب الأولمبية، ولكن لسبب ما، يتم تنفيذ كل هذه المشاريع من خلال مساحات المعيشة الخاصة بـالآخرين!

ويتم طرد السكان غير المرغوب فيهم، من المدينة التي يتم تجميلها، والتي ترتدي ميدالية الألعاب الأولمبية. وهذا يعني الفقراء، والفئات ذات الدخل المنخفض، وكبار السن، والأقليات العرقية، واللاجئين والمهاجرين، والأشخاص ذوي المظهر الريفي، والمشردين من بينهم، وباختصار، يجب ألا تظهر تلك الفئات المهمشة والمستضعفة، على ذلك المسرح الحضري. وفي نفس الوقت، يتم التخلص من الأقليات الجنسية البشرية، وحيوانات الشوارع، كما كان الحال عندما استضافت إسطنبول مؤتمر الأمم المتحدة للإسكان والمستوطنات البشرية (الموئل الثاني) عام 1996.

وبينما كانت حركة المعارضة لأولمبياد مدينة فانكوفر لعام 2010، تهتف حينها لا للأراضي المسروقة من الشعوب الأصلية، كان ذوي الدخل المنخفض، والسكان في المساكن الاجتماعية التي كان حينها سيتم هدمها في لندن (2012)، يصرخون ليست لنا، ويتساءلون ألعاب من؟ مدينة من؟. وفي عام 2016، ترددت أصوات مماثلة من الأحياء العشوائية، وهي مناطق السكن غير الرسمية في مدينة ريو البرازيلية: ألعاب الإقصاء. وبينما كان الشعار في مدينة طوكيو 2020  الأولمبياد تقتل الفقراء، كان المعارضون لأولمبياد باريس 2024 ينددون بـالتطهير الاجتماعي. فلو استطاعت آلاف القطط والكلاب الضالة، التي ذُبحت في الشوارع أن تتكلم، فهل ستقول ألعاب الوحشية؟! ففي الفترة بين عامي 1998 و2008، تم إخلاء حوالي 4 ملايين شخص قسرًا، بسبب الألعاب الأولمبية والمشاريع الضخمة.

في مدينة برشلونة تم هدم أحياء مجتمعات الروما؛ وفي أولمبياد سيول تم إخلاء 720 ألف فرد قسراً، وتم إجلاء مليوني فرد قسراً في اولمبياد بكين (إذا أخذنا في الاعتبار عمليات الإخلاء غير المباشرة). وفي أولمبياد لندن، تم هدم الأحياء ذات الدخل المنخفض، والمساكن الاجتماعية بالقرية الأولمبية، وتم إجلاء سكانها قسراً. وفي مدينة ريو البرازيلية، تعرضت الأحياء الفقيرة لعملية تطهير، وتم إخلاء آلاف الأشخاص قسرا. بينما أعلنت طوكيو 2020 الحرب على المشردين، وقامت باريس 2024 بطرد اللاجئين والمشردين من المدينة.

لقد أصبحت هذه المساحات الحضرية التي طهرت مفتوحة الآن أمام المشاريع الفاخرة، لاستثمارات رأس المال في البنية التحتية والنقل والترفيه. وعلى النقيض من الإدعاءات بأن المشاريع الأوليمبية ستُحسّن حياة السكان الذين يعيشون هناك، فإن تحسين البنية التحتية، لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين حياة السكان الحاليين، بل غالبًا ما يؤدي إلى نزوحهم. ثم يتم بعد ذلك، تسويق الأراضي التي تم اخلاؤها بمباني شاهقة بإيجارات مرتفعة بنفس القدر.

فمع الألعاب الأولمبية والفعاليات الكبرى المرتبطة بها، أصبحت الرياضة صانعة عمليات نزوح. فإذا أصبحت مدينتنا مدينة أوليمبية، فكيف سيحل ذلك أزمة السكن الصالح للعيش في إسطنبول، وقد ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل كبير، وأصبح الوصول إلى السكن بالتملك الحر أمراً مستحيلاً، وأُجبرت الفئات من ذوي الدخل المنخفض على العيش في مساكن غير آمنة بسبب نقص المساكن الاجتماعية؟ بل إن التجربة تُخبرنا أن تلك المشكلات ستتفاقم فقط بسبب الحدث الكبير.

فهل من الممكن منع هدم الأحياء، ومنع الإخلاءات القسرية، والتغاضي عن رأس المال العالمي؟

ميزانية المدينة تنتظر زلزال الألعاب الأوليمبية

كما رأينا في جميع المشاريع الضخمة، لا يمكن التوفيق بين الميزانيات المخصصة للألعاب الأولمبية، والميزانيات الفعلية، وعادة ما تنشأ أزمات اقتصادية خطيرة. وقد كان لأولمبياد أثينا نصيب من تلك الأزمة الاقتصادية التي شهدتها اليونان، حيث تضاعفت ميزانيتها الى عشرة أمثالها.

وقضية تضاعف الميزانيات الأولمبية الى عشرة أمثال، لم يقتصر على أوليمبياد أثينا، فمونتريال، المدينة المضيفة في عام 1976، تمكنت من سداد ديونها بسبب الأولمبياد بعد 30 عامًا. وفي البرازيل، التي كانت خامس أكبر اقتصاد في العالم، عندما تقدمت بطلب لاستضافة الألعاب الأولمبية في عام 2007، شهدت بعدها أسوأ أزمة اقتصادية منذ أزمة الكساد الكبير

فلم تتمكن أي مدينة من المدن التي استضافت الألعاب الأولمبية، أن تضعها ضمن الميزانية المحددة منذ عام 1960. وبلغ متوسط زيادة التكلفة 156%. لأن استضافة الألعاب الأولمبية تعني ضرورة القيام بأكثر المشاريع الضخمة خطورة، وتكلفة في الوقت الحاضر. لذلك، فهل تخطط حكومة إسطنبول المحلية، التي تنتظر زلزالاً، لأن توقد الشعلة الأولمبية، على حساب تدمير مدينة إسطنبول، من خلال إهدار الميزانية التي يجب إنفاقها على تعزيز المدينة؟ هل من المنطقي استضافة الألعاب الأولمبية، التي تثري رأس المال العقاري والجهات الراعية له، في حين تعاني إسطنبول من احتياجات اجتماعية حيوية بدءا من التعليم إلى الصحة والإسكان؟

أين سيتم بناء هذه المنشآت؟

في أغبل الأحوال، وعقب الانتهاء الألعاب الأوليمبية، تُترك المنشآت والتي عادة ما تظل دون الاستفادة منها كما هي، ثم تتدهور بسبب تكاليف صيانتها الباهظة، وتساهم في التلوث البيئي. فمثل هذه الأفيال البيضاء يتم بناؤها متجاوزة المخطط الرئيسي للمدينة، وأصول التخطيط الحضري. فمثلا تقع منشآت الألعاب الأوليمبية في مدينة فانكوفر 2010 في منطقة محمية، كانت موطنًا للشعوب الأصلية لمئات السنين، كما تم تدمير واحدة من أكثر مناطق المحميات البيئية قيمة، في شمال القوقاز، من أجل مشروع سوتشي، أثناء الألعاب الأوليمبية الشتوية في 2014 لأجل تعزيز صورة بوتين.

وبالنظر إلى عدم وجود مساحة كافية للمنشآت الرياضية الكبيرة في إسطنبول، فأين سيتم بناء تلك المنشآت الأوليمبية؟ هل ستكون في قرى الغابات الشمالية التي أصبحت وتحولت إلى سلع و خرسانة، مع خطط قناة إسطنبول، أم في الأراضي الزراعية الثمينة المتبقية في المدينة؟ وما هو نوع التناقض الذي يكمن في طموح المشروع الأوليمبي الضخم، وسط المعارضة الشرسة لمشروع قناة إسطنبول العملاق؟

الخاتمة

دعونا نختم بسؤال عمدة العاصمة وزملائه، والذين يعملون بلا كلل لجلب الشعلة الأولمبية إلى مدينة إسطنبول: إذا كانت الألعاب الأولمبية تُقام من أجل السلام العالمي، والوحدة والأخوة، ولأجل النظام العالمي المتناغم، فلماذا تتجسد في الكثير من المظالم والانتهاكات؟ ولماذا لا تُنفق مليارات الدولارات المخصصة للألعاب الأولمبية، على ضمان أن يعيش سكان المدن في أمان وصحة وازدهار وكرامة، في مواجهة الكوارث التي تلوح في الافق، وضمان عدم انتهاك حقهم الإنساني في الحصول على السكن الميسور؟ ولماذا بدلاً من ذلك،أن  تُنفق هذه الأصول على النزوح والتطوير والهدم؟ لماذا يجب أن يتحمل الشعب المسؤولية عن تلك الديون الناشئة، في حين يتم إثراء الرعاة، وشركات الأمن الخاصة، والمستثمرين من خلال ضرائب الشعب؟

فبغض النظر عن الاحتفال الكبير والإنجازات الرياضية، فقد أصبحت هذه التناقضات، الإرث الأوليمبي الذي يحاول آباء مدينتنا توريثه لنا. إنه سياسة السيرك ولكن دون خبز.


Back
 

All rights reserved to HIC-HLRN