توثيق الفظائع وسط عولمة اللامبالاة
أثناء مهمته الأولى إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، لاحظ البابا فرانسيس الذ حظي بشعبية كبيرة، وتوفي الشهر الماضي، أن حالة النزوح والهجرة، هما أعراض (لمرض) عولمة اللامبالاة. وبعد مرور إثنا عشر عاماً، لايزال ذلك التشخيص المرضي، ينطبق على غالبية الحكومات وشركائهم المنتفعين من كافة أرجاء العالم. بينما يعتبر الأطراف الواقفة في الخطوط الأمامية والعاملة في المجال الإنساني، أنهم غير ليسوا من غير المبالين تماماً، بل هم يقومون بدورهم للتعويض عن حالة فقدان الإنسانية من جانب الجناة. وينبغي أن نحييهم على ذلك.
ومن خلال صفحات هذا العدد، تقوم شبكة حقوق الأرض والسكن، والمساهمين في هذا العدد بدورهم، وأداء جزء من عقيدتهم من خلال توثيق الجهود الحالية للمجتمع المدني، في تشخيص ومعالجة التحديات العالمية الكبرى في هذا العصر. فقد بدأنا بتوثيق القضية الإقليمية المسكوت عنها المتعلقة بالنازحين في كافة الدول العربية في إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أولها، من خلال استعراض حصرهم، لإظهار مدى التحدي الإقليمي الهائل في توفير ما يستحقونه من سبل للانتصاف وجبر الضرر، بما في ذلك، استعادة المساكن والأراضي والممتلكات، وتقديم تلك الرسالة ضمن الخطاب العام، على الرغم من محاولات التعتيم والرقابة. ولأول مرة في هذا العام، يُدرج المنتدى الإقليمي لمنظمات المجتمع المدني بشأن أجندة التنمية المستدامة، قضية النزوح الإقليمي ضمن الرسائل التي خرجوا بها من المنتدى، وتوجيهها إلى المنتدى العربي للتنمية المستدامة.
وكما هو سابق، في مخرجات أخرى مثل التقارير السنوية لليوم العالمي للموئل، المستخلصة من قاعدة بيانات الانتهاكات، يسلط العدد الحالي من نشرة أحوال الأرض/LandTimes، الضوء على الأنماط الناشئة من حرمان حقوق الإنسان المتعلق بالموئل، والأدوار الوقائية والعلاجية لتلك الحقوق في كل حالة. ومن أبرز تلك الانماط، الممارسات الإسرائيلية لعقيدتها العسكرية العليا، والمتمثلة في استهداف المنازل والملاجئ والباحثين عن المأوى، بينما يسعون إلى تحقيق نقل السكان كمصلحة عليا لدولة إسرائيل. وهذا ما يشكل الظلم المتمركز في المنطقة، إن لم يكن أيضاً في عالم اليوم.
فإن سبل الإنصاف وجبر الضرر للضحايا، والقائمة على معايير طال انتظارها، وغالباً ما يتم تجاهلها، هي أولوية رئيسية يعبر عنها أعضاء التحالف في الإقليم. ويتطلب ذلك، إنهاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى، ومنها المملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وشركائهم ممن يدعمون تلك الحرب، والذين أقاموا لأنفسهم جدار من اللامبالاة. ومع ذلك، فهم يقع على عاتقهم واجب جبر الضرر عن جرائمهم.
كما يقدم هذا العدد للقراء أخر المستجدات، بشأن حالات النزوح العنيف، والمجاعة في كل من السودان والكونغو، اللتان تمزقهما ويلات الحرب، وتلك المآسي التي تتسبب فيها وتؤججها دول أخرى في الإقليم. والحال في دولة ليبيا ليس ببعيد، والتي تخضع لآلية الاستعراض الدوري الشامل لهذا العام، أمام مجلس حقوق الإنسان. وتؤكد مساهمة التحالف الدولي للموئل- شبكة حقوق الأرض والسكن في تلك العملية، على حق الإنسان في الانصاف، للأعداد الكبيرة من النازحين الليبيين وغيرهم من ضحايا النزاعات المسلحة والكوارث الناجمة عن التغيرات المناخية، الأخذة في الارتفاع.
وعلى جانب القضايا المتعلقة بالتخفيف والتكيف مع أثار التغير المناخي، من معادلة العدالة المناخية، والتحول الأخضر، سيجد القراء، في هذا العدد، الدراسة الخامسة من سلسلة الدراسات الاستثنائية، حول أداء التمويل الأخضر في الإقليم. حيث يقدم هذا العدد دراسة التعلم من تمويل العمل المناخي في المغرب.
وكما هو دائماً، تعد الأدوار الوقائية والعلاجية للمجتمع المدني والمجتمعات المتضررة سمة من سمات تلك الصفحات من نشرة أحوال الأرض/ LandTimes. وبقدر ما تعتبر الحلول على المستوى المحلي أمراً لا غنى عنه، فإن قيمها وأصواتها التي تحددها بنفسها، مازالت في حاجة لتعبير عنها في شكل بيانات قابلة للتنفيذ على الأرض. لذلك، فقد أصبح جمع البيانات بقيادة المجتمع المحلي أمراً أكثر أهمية- وحتى بديلاً- مجموعة البيانات العالمية، التي غالباً ما تغفل الأسر المتضررة، وقيمها الفردية والجماعية المعرضة للخطر.
ويسجل العدد الحالي، الجهود الحثيثة التي يبذلها أصحاب المصلحة للفت الانتباه إلى وجهة نظر أصحاب الحقوق. وفيه يسلط الضوء على مثالين هامين، الأول، وهو نتيجة سنوات من النضال والجدال، والتفاوض، قام به فلاحون مصريون، أثمرت مؤخراً في تأسيس أول نقابة عامة لصغار المزارعين المصريين، وقد لعبت فيه الجمعية المصرية للحقوق الجماعية، وهي عضو التحالف الدولي للموئل، دوراً هاماً لدعم وانجاح تلك العملية.
وفي النطاق العالمي، نحن نشارك الدعوة التي أطلقها المزارعين وصغار الفلاحين، إلى عالم خال من النهب الإمبريالي والحروب، والنظام العسكري، وقد شكل اليوم العالمي لمعدومي الأراضي، مناسبة خلال استعراض هذا العدد من نشرة أحوال الأرض/LandTimes.
وفي سياق دعم الحق في الأرض للنساء المزارعات، وصغار الفلاحين، والعمالة الزراعية، قدمت شبكة حقوق الأرض والسكن، دعمها ومساندتها لهذا العمل الهام ضمن برنامج مؤسسة المرأة الجديدة في مصر، والذي جاء في تقرير عن سلسة من ورش العمل لبناء القدرات، والتي ساهمت الشبكة في تنظيمها مع فريق مؤسسة المرأة الجديدة.
وهناك مبادرة أخرى لحقوق المرأة على النطاق العالمي، أطلقتها المرأة العربية في مؤتمر (بيجين +30) لإعادة النظر في أطر العمل للأمم المتحدة المعنية بأوضاع المرأة بعد مرور نصف قرن. وتلك الدعوة لأجل تقديم تفكير انتقادي، يسعى إلى كشف ومعالجة العقبات الهيكلية في النظام الدولي، المستمرة في التميز ضد المرأة، وتبحث عن معالجة الظلم التاريخي على المستوى المحلي.
وترتبط دعوة الإقليم لإعادة التفكير في أطر عمل الأمم المتحدة، بالدعوة العالمية، ويبرز العدد الحالي من نشرة أحوال الأرض/landTimes، ضرورة بناء السلام التي قدمها الحلفاء في المنتدى الدائم للأمم المتحدة المعني بقضايا الشعوب الأصلية، (UNPFII)، والذي انعقد مؤخراً قبل نشر هذا العدد بمدة قصيرة.
ووفق هذا المنظور العالمي، يمكننا أن نرى بوضوح، وأكثر من أي وقت مدى، أوجه التشابه، بين قضيتي فلسطين وكشمير. في هذا العدد يتضمن إصدار مفصلا من مركز أبحاث الأراضي- القدس، يساعدنا في إحياء ذكرى مرور 77 عاماً على النكبة التي لاتزال مستمرة، منذ الغزو الإسرائيلي الاستعماري الشامل، والتطهير العرقي لفلسطين في عام 1948. كما تذكرنا الأحداث الجارية بأن كشمير المحتلة تتشارك مع فلسطين حالة اشتعال دائمة. وحيث أن الاحتلال المتعدد لكشمير يعود رسمياً إلى عام واحد قبل احتلال فلسطين، إلا أن إنكار الهند مؤخراً، فيما يخص الوضع الخاص الدستوري لكشمير في عام 2019، دفع القوميين الهنود من الهندوس، وغيرهم من الأجانب إلى نهب الموارد والأراضي في إقليم كشمير، وهدم منازل من يشتبه به في معارضة تلك السياسات. وهذا التحالف الاستراتيجي والعسكري المستنسخ بين الهند وإسرائيل واضحاً في هذا السياق، ما يهدد بإغراق إقليم آخر في الحرب.
فقد يمثل توثيق الانتهاكات الجسيمة مثل عمليات الإخلاء القسري، والجرائم الفظيعة للإبادة الجماعية، ونقل السكان، مساهمة متواضعة ولكن لا غنى عنها في إيجاد بدائل منصفة. فحين نشهد فداحة قسوة حالة اللامبالاة في جميع أنحاء العالم، نشعر أن كل ما نقوم به هو أمر حيوي، ولكنه ليس كافياً أبداً. لذلك قد يعتبر الاطلاع على هذا العدد من نشرة أحوال الأرض/LandTimes، هي خطوة أولى نحو القيام بمزيد من الجهود.
|