English عن التحالف اتصل بنا العدد 23 - تموز/ يوليو 2021 الرئيسسة
تطورات عالمية

تصور للعدالة الانتقالية في سياق الاستعمار

تشكل العدالة الانتقالية السبيل الأساسي المعاصر لاستكشاف سبل الوصول إلى العدالة، وإحلال السلم المستدام، للمجتمعات والشعوب التي عانت من حكم قمعي، و من إرث ممتد من انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة في البلدان التي عانت من الاستعمار. فالعمليات الانتقالية صُممت لتوفير المعالجة السياسية والقانونية لمظالم الماضي، بآليات عدالة معاصرة. إلا أنه، نادراً ما يتم تطبيق سبل الانتصاف المتاحة في سياق العدالة الانتقالية، على العنف والظلم المتأصل في الاستعمار الاستيطاني.

وتوضح بعض النماذج، المتعلقة بتطبيق العدالة الانتقالية في حالات الاستعمار الإفريقي، أن فكرة العدالة الاجتماعية في حالة تغير مستمر، لمحاولتها أن تسعى إلى توفير الإنصاف لكل من تعرض لمظالم الماضي الاستعماري، على أساس التقاليد والممارسات القضائية المحلية، بطريقة تلبي احتياجاتهم. وهذا ما أكده تقرير الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان (2004)، الذي تناول مفهوم العدالة الانتقالية على أنه  كامـل نطـاق العمليـات والآليـات المرتبطـة بالمحـاولات الـتي يبـذلها المجتمع لـتفهم تركـة مـن تجـاوزات الماضـي الواسـعة النطاق بغية كفالة المساءلة، وإقامة العدالة، وتحقيق المصالحة. وقد تـشمل هـذه الآليـات القـضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عـدم وجودهـا مطلقـا). وهنا يكون التحدي الرئيسي في تجارب الدول التي تريد المضي قدماً للأمام وتحقيق الأمن المجتمعي، من خلال ترميم العلاقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، في الاختيار بين نوع العدالة المراد السعي إليها، عقابية (Punitive)، أو تصالحية (Restorative)، أو انتقالية (Transnational).

وهذا المفهوم الشامل يوضح، مبدءاً أساسياً، أنه لا يمكن الوصول إلى العدالة بمعزل عن القضايا الأخرى المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي تم ارتكابها على وجه الخصوص ضد الفئات الأكثر تضرراً (الشعوب الأصلية، النساء والأطفال، اللاجئين والنازحين) وهي من المظالم التاريخية المستمرة حتى الآن والتي خلفها الاستعمار، ومنها التمييز الممنهج، وانعدام فرص الوصول إلى الصحة والتعليم، ونهب الأراضي وعدم الاعتراف بحق في الوصول إليها أو إلى الأقاليم وغيرها من الموارد الطبيعية، فضلا عن عدم الاعتراف بالحقوق الثقافية. لذلك نجد في الكثير من الحالات التي طبق فيها المجتمع الدولي المرحلة الانتقالية، أنه قد ركز فقط على الملاحقات القضائية، أو تقصي الحقائق، ولكن دون إتاحة المشاركة للضحايا أو الكيانات الوطنية، في تحقيق التوازن المناسب واتخاذ القرار، وإيجاد مقاربة توازن بين مجموعة متنوعة من الأهداف، تهدف إلى إصباغ الطابع المؤسسي على العدالة الانتقالية، ومنها السعي إلى تحقيق المساءلة، وجبر الضرر للضحايا، وصون الأمن البشري، وبناء الديمقراطية وسيادة القانون، وجميعها أمور عاجلة لايمكن إرجاؤها.

وفي ذات السياق، أطلق المقرر الخاص الأممي المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، دراسة استقصائية، للحصول على مساهمات مكتوبة من كافة الجهات الفاعلة ذات الصلة، عن اعتماد تدابير العدالة الانتقالية، لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والقانون الانساني المرتكبة في السياقات الاستعمارية، والتي سيتم تقديمها في الدورة 76 للجمعية العامة، في أكتوبر/تشرين الأول القادم 2021. وقد شارك التحالف الدولي للموئل – شبكة حقوق الأرض والسكن، بالتعاون مع الأعضاء، في تقديم مساهماتهم المرتبطة بإقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

فقد تناولت مساهمة مؤسسة الحق(فلسطين)، تسليط الضوء على دور الشركات العابرة للأوطان وغيرها من مؤسسات الأعمال والتجارة، كشكل معاصر للاستعمار داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتحديات المستمرة التي مواجهتها لمحاولة اعتماد صك دولي ملزم قانوناً لتنظيم أنشطة هذا النمط المعاصر من الاستعمار، وكيف ساهمت تلك الشركات العابرة للأوطان، في تجزئة مفهوم السيادة، وتقسيم السيطرة على الملكية والأشخاص بين الحكومات والشركات. وكيف تستغل إسرائيل الدمج بين العولمة واقتصاد السوق الحر في مشروعها الاستعماري داخل الأراضي المحتلة الفلسطينية، وخلق حوافز اقتصادية لكي تجعل الاحتلال مربحاً لمؤسسات الأعمال المتعددة الجنسيات وربط سياسة الدولة بالاستثمارات الخاصة، مما يساهم في إدامة الاحتلال غير المشروع. وأكدت مؤسسة الحق على أن العدالة الانتقالية، يجب أن تشمل الأبعاد المختلفة للاقتصاد السياسي، وتأثيرها على القانون الدولي لضمان الحقيقة والعدالة وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، مع الأخذ في الاعتبار أوجه القصور التي شابت تجربة لجان الحقيقة والمصالحة لجنوب إفريقيا، وناميبيا، بسبب تجاهل الجرائم الاقتصادية ودور الشركات العابرة للأوطان، إذا كنا نبحث عن تحقيق أهداف العدالة الانتقالية، وانهاء تركة الاستعمار، ويجب التنويه إلى أن 2021-2030، الذي يصادف العقد الرابع الدولي للقضاء على الاستعمار، كانت إسرائيل، والمملكة المتحدة إلى الجانب الولايات المتحدة، هي الدول الثلاث الوحيدة التي صوتت رسمياً ضد إقرار تلك المبادرة للدخول في عقد الأمم المتحدة.

أما مساهمة التحالف الدولي للموئل- شبكة حقوق الأرض والسكن، والتي قدمها مع عدد من منظمات المجتمع المدني، فقد سلطت الضوء على جبر الضرر لقضية الصحراء الغربية، حيث سلطت الضوء على تجربة الإنصاف والمصالحة، التي عالجت فترة سنوات الرصاص التي تضمنت ألالاف الحالات من الاختفاء القسري، والتعذيب والتسبب في بعض الخسائر في الممتلكات. إلا أن، قضية الإحتلال غير المشروع للصحراء الغربية، ونهب ثرواته، لم تكن ضمن عملية الانصاف والمصالحة.  ولم تشمل غالبية قضايا الأشخاص الذين تعرضوا للاختفاء القسري، والتشريد، والتجريد من الممتلكات، فقط حالات بعض أولئك الأفراد الذين تم اختفائهم قسريا من ضحايا الصحراء الغربيةً، لم يتلقوا تعويضات مساوية مقارنة بغيرهم من الضحايا المغاربة الذين تعرضوا للاختفاء القسري. فضلا عن، أن النموذج المغربي للعدالة الانتقالية، قد أغفلت أية محاكمة للجناة المزعومين، والذين لايزالون يشغلون مناصب حكومية، على الرغم من أن إقليم الصحراء الغربية المحتل كان الأكثر تضرراً من سياسات القمع ولا يزال يخضع لضرورة العدالة الانتقالية.

وبالمثل، في حالة فلسطين المحتلة، تناولت مساهمة شبكة حقوق الأرض والسكن، بشكل منفصل، التزامات المنظمات التي تصبغ الطابع المؤسسي على التمييز المادي ضد الشعب الفلسطيني بأكلمه. ومن الملاحظ كيف لتلك الكيانات شبه الحكومية، قد نفذت عمليات لنقل السكان المحظرة دولياً، منذ إنشائها، في حين أنها تعمل بصفتها مؤسسات خيرية معفاة من الضرائب، في أكثر من 50 دولة، وبصدد ذلك، كررت شبكة حقوق الأرض والسكن مطالبتها، بتحويل تلك المؤسسات الإسرائيلية، إلى آليات العدالة الانتقالية، من أجل تحقيق الانصاف للشعب الفلسطيني، الذين تعرضوا للتجريد من ممتلكاتهم، لأكثر من قرن، بإسم دولة إسرائيل.

وتشير تلك الانعكاسات، حول تطبيق العدالة الانتقالية، إلى ماهية التدابير التي لا يزال يتعين اتخاذها، من أجل استعادة العدالة في السكن، والأرض والموئل، إضافة إلى تأثير النظام العالمي في إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

 

الصورة: فابيان سالفيولي (Fabian Salvioli)، المقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار. المصدر: Luis Mejía/Revista FACTUM.


Back
 

All rights reserved to HIC-HLRN